تيار المستقبل الافريقي

 

في تلك الليلة التي اشتعل فيها النيلُ بالبخور الأزرق، خرجت قمر الزمان من الفندق المطلّ على شارع النيل ترتدي عباءة منقوشة بتمائم دنقلا القديمة، وتحدّثت إلى مرايا الخرطوم المكسّرة عن معنى "العودة إلى الدولة"، لا كجغرافيا بل كأغنية. كانت الحرب تلتهم أطراف المدن، ومع ذلك كان البيان الأول يزهر في يدها مثل جواز سفر جديد لأمة تتنفس بين الرقمنة والذاكرة.

في القاعة التي كانت تسمّى بالصداقة، جلست وفودٌ من كلّ القارات، بعضهم يشبه المرايا، وبعضهم يشبه السيوف التي نامت طويلاً. تحدّث طاغور قمر الأنبياء بإنجليزية مُبهَرةٍ عن الحلم الإفريقي الجديد، لا عن تيار المستقبل اللبناني، بل عن ظله الإفريقي الذي خرج من رحم الطوفان. قال إنّ السيادة ليست رايةً بل نَفَسٌ مشترك، وإنّ الليبرالية العربية ليست نقيضًا للهوية بل طريقًا إلى أنسنة الصحراء.

كانت وجدان مطر تُدوّن الملاحظات ببطء، وكأنها تكتب إنجيلًا إلكترونيًا للبشر بعد نهاية العالم. تحدثت عن الإصلاح الإداري كقصيدةٍ تُبنى من رماد المعابر، وعن الاقتصاد الحر كطائرٍ لا يهاب الرماد. لم تكن تظنّ أن البيان سيُترجم إلى لغاتٍ خمسٍ في أسبوعٍ واحد، وأنّ أول نسخةٍ ستصل إلى بوغوتا، حيث تنتظرها قمر الزمان على شرفةٍ مبلّلةٍ بالمطر.

في المساء، اجتمع الشهود تحت مظلةٍ واحدةٍ من القماش الأزرق، كانت مطرٌ خفيفةٌ تتساقط على الميكروفونات، بينما اختلطت أصوات الخطباء بأزيز الذباب. تحدّث أحدهم عن الإصلاح الاجتماعي، وآخر عن الاعتدال، وثالث عن الدولة المدنية كعطرٍ جديدٍ في قارورةٍ قديمة. لم يكن أحدٌ يدرك أن الخرطوم تكتب بيانها الأخير بصوت قمر الزمان.

في الهزيع الثالث من الليل، تذكّرت قمر الزمان طفولتها في دنقلا حين كانت تنحت الحروف الهيرغلوفية على صدف النيل، وقالت لطاغور إنّ الهوية مثل الماء: تأخذ شكل الوعاء. ابتسم وقال إنّ التيار لا ينتمي إلى جهة، بل إلى جريان. ومنذ ذلك اليوم صار شعار التنظيم: "نحيا كما يجري الماء، لا كما تُقام الجدران".

من نافذة قاعة الصداقة، كان يمكن رؤية النهر وهو يعانق وهج الكهرباء المنقطع. صاحت وجدان مطر: "هذه هي الدولة الرقمية الموعودة!"، فابتسم المندوب التشادي وقال: "إنها أشبه بمرآةٍ في يد نبيٍّ أعمى". ضحك الجميع، لكن قمر الزمان رأت في الجملة نبوءة، وكتبت في دفترها: الحداثة حين تذرف دمعة على ضوء الشموع.

في بوغوتا، بعد شهورٍ من انطفاء الحرب، كانت قمر الزمان تطهو القهوة لطاغور على موقدٍ صغيرٍ وتستمع إلى نشرات أفريكانا. كانت الأخبار تتحدّث عن “جيلٍ سادسٍ بدار الهجرة”، عن انتفاضاتٍ رقميةٍ في الخرطوم الجديدة، عن مشروعٍ للتكامل الإفريقي العروبي. ابتسمت وقالت: “كأن البيان الذي كتبناه صار حياةً مستقلة عنّا”.

في الأرشيف السري لمركز البحوث بأفريكانا، كانت وجدان مطر تراجع النسخة الأخيرة من البيان. حذفت كلمة “السلطة”، واستبدلتها بـ“الطاقة”. ثم حذفت “الطائفية” وكتبت “التعدد الخلاق”. قالت في رسالتها إلى قمر الزمان: “اللغة وحدها يمكنها أن تؤسس دولة”. فردّت عليها من بوغوتا: “والشعر وحده يمكنه أن يمنحها روحًا”.

حين زار " طاغور قمر الأنبياء المتحف الوطني"   في بوغوتا، رأى تمثالًا نصفه نوبي ونصفه أزتيكي. أدرك حينها أن أفريقيا وأمريكا اللاتينية تشتركان في ذاكرة الطوفان. كتب في دفتره: المستقبل ليس في الشمال، بل في الجهات التي تنسى الخرائط. تلك الليلة وُلد تيار المستقبل الإفريقي رسميًا من رحم الأسطورة.

وفي الختام، عندما أُطفئت الأنوار في القاعة، سُمعت قمر الزمان تقول: “لم يكن البيان بيانًا، بل مرثيةً لجسدٍ يبحث عن وطنٍ في كل قارة.” فأجابت وجدان مطر من بعيد: “لا تبحثي، لقد صار التيار فينا.” وبين المطر والميكروفونات، كُتبت الحكاية الأخيرة بمدادٍ من الحنين والإلكترونيات والورد النوبي.

 

 

_______

 

كانت دار الهجرة بعد الحرب تشبه سحابةً بلا عنوان، عاصمة بلا خرائط. على جدرانها المكسّرة كانت تُكتب بيانات الماركسية القديمة بخطوطٍ إفريقيةٍ بدائيةٍ، بينما في مقاهيها الإلكترونية كان الجيل الجديد يتحدّث عن ماركس بوصفه مؤثرًا على “التيك توك السياسي الأمريكي”. في ذلك المزيج الغريب، وقف كهاهي هبظلم الهيرغلوفي في فناء جامعة المستقبل يقول: “إن الثورة الآن رقمية، لكن جذورها طينية من بحر الجبل”.

في ذلك المساء، جلس باسم محجوب أبو سليم الحايك على كومةٍ من الأنابيب المعدنية في مخازنه القديمة بالخرطوم الجديدة، يشرب الشاي من كوبٍ مكسورٍ ويقول لعماله: “ماركس في أفريقيا كان فلاحًا يحمل مطرقة، أما ماركس في أمريكا فهو موظفٌ في شركةٍ ناشئةٍ يكتب بياناته عبر تطبيق زووم.” ضحكوا جميعًا، لكنهم أدركوا أن الرجل يتحدّث عن الفجوة بين الثورة والعمل اليومي.

كانت ميرندا منير البعلبكي، اللبنانية المتأمركة، قد فتحت مقهى في حي المطار الجديد، تُقدّم فيه “لاتيه اشتراكي” بنكهة الهيل. تقول لزبائنها من اللاجئين السودانيين والكوبيين: “اليسار في نيويورك يتحدث عن العدالة المناخية، بينما في الخرطوم نتحدث عن عدالة الجوع.” وكانت تضيف بابتسامةٍ غريبةٍ: “كلاهما يساريّ، لكن أحدهما ينام تحت المطر، والآخر يكتب عنه تغريدة.”

في الطابق الرابع من قناة أفريكانا في مونروفيا، كانت كريت فضل عبد الرزاق المريود تُجرّب أول بثٍّ تفاعليٍّ بين طلاب الخرطوم وباحثي واشنطن. سألها أحدهم: “هل ما زالت الماركسية تصلح لأفريقيا؟” فأجابت: “هي لم تكن يومًا نظريةً بقدر ما كانت ذاكرةً للمجاعات.” ثم همست في أذنها الأم وجدان مطر: “احذري يا كريت، فالحرية حين تبثّها عبر الأقمار الصناعية تصبح سلعةً تسويقية.”

في ليالي دار الهجرة، كان كهاهي هبظلم يكتب على الجدران الطينية شعاراتٍ بالأحرف النوبية القديمة: “العدالة أن نقتسم الضوء.” كان يعتقد أن الماركسية الإفريقية لا تنتهي بقراءة رأس المال، بل تبدأ حين تقسم الكهرباء بين الأحياء بعد انقطاعها. وكان يحلم بأن يكتب بيانًا جديدًا باسم “تيار الحل في الحل”، بيانًا يضع المطرقة في يد امرأةٍ تصنع الخبز لا في يد عاملٍ يطرق الحديد.

في مخازن أبي سليم، كانت شاحنات الإسمنت تتحرك كأنها دبابات الثورة المؤجلة. باسم، الرجل الذي لم يقرأ سوى الفواتير، بدأ يقتنع أن الصراع الطبقي يمكن أن يحدث بين من يملك مولدًا كهربائيًا ومن لا يملكه. كتب على دفتره: “في أمريكا، الماركسي يرتدي نظاراتٍ مكبرةٍ للبيانات. في أفريقيا، الماركسي يضع يده على الأسلاك العارية.” ابتسم وقال: “كلاهما يحترق، لكن أحدهما يحترق بالبيانات والآخر بالكهرباء.”

في مقهى ميرندا البعلبكي، جلس طلاب جامعة المستقبل يناقشون خطاب ألكساندريا أوكاسيو كورتيز الأخيرة. كانت ميرندا تشرح لهم معنى “الاشتراكية الديمقراطية” بلكنةٍ لبنانيةٍ متكسّرة، ثم تشير إلى شاشةٍ تعرض صورة طفلٍ من معسكرات دارفور. قالت: “هذا هو الفارق: الماركسي الأمريكي يصرخ من أجل البيئة، والماركسي الإفريقي يصرخ من أجل البقاء.” رفعت كوبها وقالت: “كلا الصراخين جميل، لكنه لا يغيّر الطقس.”

في استديو أفريكانا، كانت كريت تعد تقريرها الليلي بعنوان: “من الرأسمالية الإنسانية إلى الإنسانية الرأسمالية”. مرّت اللقطة الأولى على أحياء الخرطوم المهجورة، ثم على وول ستريت المزدحمة. قالت في التعليق الصوتي: “حين تتصالح الماركسية الأمريكية مع السوق، فإنها تنجب ليبرالية بلونٍ وردي. أما في أفريقيا، فالماركسية حين تصالح الجوع، تنجب الحلم.” صفّق المخرج، وقال: “أنتِ ابنة الثورة حقًا.”

في شوارع دار الهجرة الجديدة، ارتفعت لوحاتٌ رقميةٌ تُعلن عن افتتاح أول “جامعة للهجرة والاغتراب” تحت شعار: “المعرفة بعد الحرب وطن.” هناك، التقوا جميعًا: كهاهي، باسم، ميرندا، وكريت. تناقشوا طويلًا حول العدالة، والملكية، والإيمان. قال كهاهي: “ربما تكون الماركسية في أفريقيا آخر قصيدةٍ للتراب.” أجابت كريت: “وفي أمريكا، أول قصيدةٍ للسيرفر.” ثم ضحكوا جميعًا، لأن الفارق بين التراب والسيرفر لم يعد واضحًا.

وحين سقط المطر على مونروفيا، كانت وجدان مطر تكتب في مذكّراتها: “الماركسية القديمة كانت تحلم بإنسانٍ جديد. الماركسية الأمريكية تحلم بمستخدمٍ جديد. وبين الحلمين يعيش المهاجر، يحمل مطرقةً في يدٍ وهاتفًا في اليد الأخرى.” وفي الظلّ كانت ابنتها كريت تُغلق الكاميرا، بينما قمر الزمان في بوغوتا تتأمل عبر الشاشة المطفأة نهاية البثّ كمن يرى الحلم يُعيد كتابة نفسه بلغةٍ منسية.

 

_________

 

في صباحٍ رماديٍّ من شهرٍ لم يُعرف بعد، استيقظت محسدة الحريري على صوت المذياع يبثّ نشيد “دار الهجرة الجديدة”، بينما كانت المآذن تُكمل صدى الأذان فوق أسطح القضارف القديمة. دخلت المطبخ الصغير في عمارة عرابي الأبَهري، تفتح النافذة نحو مكتبة المستقبل العامة التي يديرها زوجها خوجلي أبو الأفكار الفللي. الهواء كان يحمل رائحة الورق المبتلّ ورنين القنابل القديمة من بعيد، لكنّها ابتسمت كمن يسمع حكايةً لا تتكرّر. كانت الحرب قد انتهت منذ أسابيع، ومع ذلك ظلّت في نَفَس المدينة.

في مكتبة المستقبل، وقف خوجلي بين رفوفٍ مُغبرةٍ كأنها خرائط النجاة. يقرأ في “الليبرالية في عصر ما بعد الفوضى”، ويتأمّل وجوه الطلاب الذين جاءوا يعيدون الكتب بعد انقطاعٍ دام شهورًا. كان يقول لهم: “القراءة مقاومة.” ثم يضحك: “والمقاومة فنٌّ من فنون البقاء.” في الخارج كان نادي السهم الرياضي يُعيد فتح أبوابه، وكان أول من دخل الملعب أبناء الشهداء، يحملون كرةً تلمع كقلبٍ من ذهب.

في المساء، زارت محسدة مسجد المدينة العتيق، حيث اجتمع فرع تيار المستقبل الإفريقي لإحياء ذكرى الشهيد مضوي أبو القرون الديجور. في أروقة المسجد كانت المراوح تدور ببطءٍ كجنازاتٍ صغيرة، والنساء يتهامسن عن البسالة في ود مدني، وعن الليالي التي تحوّل فيها الدم إلى نهرٍ من الورد. تحدثت محسدة بصوتٍ هادئ: “لا نريد حربًا جديدة، نريد مكتباتٍ أكثر.” صفق الناس، وبكت العجائز في الصف الأخير.

حين عادت إلى حي النصر، كانت أكرام سيف النصر، الوزيرة القادمة من فداسي الحليماب، تنتظرها على شرفةٍ تطلّ على سيتي بارك. حملت بين يديها أوراق “بيان الكرامة الثاني” الذي سيُذاع من مركز الإكرام الثقافي. تحدّثتا عن المصالحة، عن معنى أن تكون المرأة وجهًا لليبرالية الإفريقية الجديدة، عن الخرطوم التي لم تعد مركزًا، بل ذكرى تُعلّق على الجدار بجانب صور القُدامى. وفي الخلفية، كان المهندس زوج أكرام يشغّل أضواء مصنع الكوكاكولا كمن يوقظ مدينةً من سباتها.

في الليل، جلس خوجلي على سطح العمارة، يسمع ضجيج المدينة العائدة إلى الحياة. تذكّر رفاقه الذين سقطوا في معركة سنار، وتذكّر قول مضوي الديجور قبل رحيله: “من لم يكتب بالدم، فليكتب بالحبر الذي يشبهه.” فتح دفتره القديم وكتب: “القضارف لا تحتاج إلى علمٍ جديد، تحتاج إلى ذاكرةٍ أوسع.” ومن بعيد، كان يسمع أصوات المقاومة الشعبية تعزف نشيدها الأول في ساحة كمودانية.

في صباح اليوم التالي، خرجت محسدة تتفقّد دور الشباب في حي سلامة البيه. وجدته يعجّ بالحياة من جديد؛ البنات يرسمْنَ على الجدران جدارياتٍ عن الحرية، والأولاد يكتبون بياناتٍ رقمية على الشاشات المهشّمة. هناك قالت لهم: “تيار المستقبل ليس حزبًا، إنه وعدٌ بأن لا ننسى.” التقطت صورةً جماعية، ثم كتبت في مفكرتها: “نحن أول جيلٍ يبني من تحت الأنقاض مكتبةً قبل أن يبني منزلاً.”

في مكتبة المستقبل العامة، أقامت محسدة أول ندوة بعد التحرير بعنوان: “الهوية الليبرالية في زمن الخراب”. تحدث خوجلي عن الإنسان بوصفه كتابًا مفتوحًا، وتحدثت هي عن الوطن بوصفه مكتبةً لا تنتهي رفوفها. في الصفوف الخلفية جلس عمال المنطقة الصناعية القديمة، يخلعون خوذاتهم احترامًا للكلمات. وعندما انتهى اللقاء، وزّعت عليهم نسخًا من “بيان النهار الإفريقي” الذي صاغته لجنة الوعي المدني النسوي بالقضارف.

في طريق العودة، مرّت بسيتي بارك السياحي حيث تعلو أصوات الأغاني الجديدة، وأطفال يبيعون الورد البلاستيكي لزوارٍ من سنار. هناك التقت برجلٍ من المقاومة الشعبية يحمل على صدره صورة " مضوي الديجور" . قال لها: “كنا نحارب كي تبقى هذه المدينة تقرأ.” أعطته وردةً وقالت: “وسنقرأ كي لا نعود للحرب.” كان المساء يهبط ببطءٍ، يكتب لونه بنفسجًا على جدران المدرسة الأميرية الثانوية.

في ذلك الليل العاصف، تلقّت محسدة اتصالاً من وجدان مطر بقناة أفريكانا في مونروفيا. الصوت كان متقطعًا، لكنها فهمت الرسالة: “القضارف أصبحت رمزًا للمدن التي قاومت بالحلم.” أغلقت الهاتف وجلست قرب النافذة، تشاهد المطر يهبط على مول البرادعي أبو تريكة. قالت في سرّها: “حتى المولات الآن تعرف معنى الصمود.” ثم أطفأت المصباح ونامت على صوت المطر وهو يكتب فوق الزجاج.

وفي الفجر، حين انبثق الضوء من فوق المدرسة الأميرية، خرجت محسدة وخوجلي معًا يحملان أكواب القهوة إلى عمال النظافة الذين أعادوا فتح الشوارع. في ذلك الصباح لم يتحدثا عن الحرب ولا عن البيان، بل عن الكتب الجديدة التي وصلت من مكتبة الخرطوم قبل أن تحترق. قالت له: “كل ثورة تبدأ بحلمٍ مكتوبٍ بخط اليد.” أجابها: “وكل حكاية تنتهي حين نقرأها بصوتٍ عالٍ.” كانا يسيران نحو مكتبة المستقبل، والمطر يلمع فوق الأرصفة كأنه صفحات روايةٍ لم تُغلق بعد.

________

 

تعليقات

المشاركات الشائعة